الإلمام بالحقيقة

factfulness111.jpg

تعرفت على هانز رولزنج قبل ثلاث سنوات عندما تابعت محاضرته في مؤتمر Ted عام 2006 (https://www.youtube.com/watch?v=hVimVzgtD6w )، حيث شدني بداية أسلوبه في استخدام الجرافيكس لعرض الإحصائيات، إلا أنني ما لبثت أن انغمست في عمق خطابه البديع.

أمضى روزلينج حياته كلها في نشر الوعي عن أهمية الحقائق والبيانات والإحصائيات وكيفية تأثيرها على صناعة القرار. وأكثر ما كان يركز عليه هو أن العالم ليس سيئا كما نعتقد.

كتاب “الإلمام بالحقيقة” هو خلاصة حياة هانز روزلينج، تشارك في كتابته مع زوجته وابنته في أيامه الأخيرة بعدما اكشتف إصابته بالسرطان، فقرر توثيق جميع محاضراته والأبحاث التي قام بها لنشر ثقافة الإلمام بالحقائق.

في هذا الكتاب يتحدث روزلينج عن المفهوم الخاطئ حول “الشرق والغرب” (نحن و هم) وكيف أن هذه المسميات لم تعد موجودة نتيجة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي مرت على مختلف دول العالم. يقوم بعد بذلك بالتطرق لعدد من الطرق الخاطئة في التفكير كتضخيم الحقائق بسبب الخوف، والقفز المباشر للاستنتاجات، وافتراض أن البيانات تأخذ منحنىً مستقيماً .. إلخ من هذه الأفكار، في محاولة لإيصال رسالة مفادها أن العالم يتحسن وأن مفهوم العالم الثالث لم يعد موجوداً.

هذا الكتاب يحارب الانحياز في عالمٍ يبدو فيه أن كل فردٍ مستعد للانجياز بشكلٍ أو بآخر. يريد منكم روزلنج أن تنظروا للحقائق من عدة زوايا قبل اتخاذ أي قرار. ويلخص رؤاه في عبارة واحدة “لا مجال للحقائق إن كانت أذهاننا حبيسة للخوف”.

قال بيل جيتس عن هذا الكتاب “إنه أحد أهم الكتاب التي قرأتها في حياتي – هو دليل لا غنى عنه للتفكير بوضوع حول هذا العالم”.

ملاحظة: لم أقرأ سوى النسخة الإنجليزية، ولكن النسخة العربية متوفرة أيضا.

بواسطة Badr Al Jahwari

الإحلال الذكي ونطاق الإشراف

تحدثت ذات مرة في تغريدة لي على تويتر عن موضوع “الإحلال الذكي” ومدى أهميته لقضية التعمين وتوفير فرص العمل. بالعودة للتغريدة ( https://twitter.com/jahwary/status/1080536280012935169 ) فالإحلال في صورته البسيطة هو ملء الشواغر العليا من داخل المؤسسة، مما يخلق شواغر أخرى بمستويات أقل، يتم ملئها من المستويات الأقل منها، وهكذا وصولا لأدنى مستوى يمكن ملؤه بالترفيع، فيتم حينها اللجوء للتوظيف من الخارج.

1

ولكن الموضوع ليس بتلك السهولة. فإمكانية “الترفيع” تعتمد على الكثير من العوامل منها جاهزية الموظفين، وتمايز الوظائف في المستوى الواحد، والأهم من ذلك كله ما يعرف ب”نطاق الإشراف” Span of Control في المؤسسة، وهو عدد المرؤوسين المباشرين لأي منصب إشرافي. وبالنظر لعدد موظفي المؤسسة وتنوع عملياتها وتوزيعها الجغرافي، فإن نطاق الإشراف يتغير، إذ لا يوجد رقم سحري هو الأفضل دائما.

2

الهياكل التنظيمية

ووفقاً لعدد المرؤوسين في نطاق الإشراف تتراوح الهياكل التنظيمية Organizational Structures بين العمودية (عدد قليل من المرؤوسين وتعدد المستويات) والأفقية (عدد كبير من المرؤوسين ولكن بمستويات قليلة). أيهما أفضل؟

في الهياكل العمودية تقل حدود المسؤولية (Responsibility) وترتفع حدود المساءلة (Accountability) حيث يكون من هو في أعلى الهرم مساءلاً عن كل ما يحدث ولكن دون التدخل المباشر في عمليات مرؤوسي مرؤوسيه. كما أن هذه الهياكل تخلق سلسلة قيادة (Chain of Command) طويلة تصعب على الموظفين الصغار التواصل مع من هم في أعلى الهرم، فتقل الشفافية وتزيد البيروقراطية. ولكن الأمر الإيجابي في الهياكل العمودية إعطاء فرصة أكبر للموظفين لكسب خبرات قيادية وإشرافية، وتقليص ممارسات الإدارة التفصيلية (Micromanagement) بالإضافة لزيادة فرص الترقية حيث يقل التنافس على المناصب العليا بسبب صغر نطاق الإشراف بها.

3

أما في الهياكل الأفقية أو المستوية (Flat Structures) فيرتفع نطاق الإشراف وتكثر المسؤوليات المباشرة للرئيس حيث يصبح متحكماً مباشراً في كل ما يحدث في فريقه، وقد يصل الأمر لارتفاع نسبة الإدارة التفصيلية فيتدخل الرئيس في التفاصيل الدقيقة لمرؤوسيه، وتقل فرص الترقيات لمناص قيادية في الفريق. ولكن الأمر الإيجابي في هذا النوع من الهياكل هو زيادة الشفافية بين أعضاء الفريق حيث يشارك الرئيس الفريق بأكمله خطط الفريق ومؤشرات قياس الأداء بدلاً من القلة التي في أعلى الهرم. ومع ظهور الشركات الصغيرة الناشئة Startups كثر التوجه نحو الهياكل المستوية حيث يشرف الرئيس التنفيذي أو صاحب المؤسسة بشكل مباشر على جميع العمليات للتأكد من سير العمل.

4

أبعاد نطاق الإشراف

لنطاق الإشراف بعدين: أفقي وعمودي. فالبعد الأفقي هو ببساطة عدد المرؤوسين المباشرين للرئيس. أما البعد العمودي أو ما يسمى ب”العمق الإشرافي” (Depth of Control) فهو عدد المستويات التي يشرف عليها الرئيس. ويؤثر عدد المستويات على عملية التواصل بين الرئيس والموظفين في المستويات الدنيا من الهيكل. كلما زاد عدد المستويات قلت جودة التواصل.

عوامل نطاق الإشراف

لا يوجد رقم سحري واحد يحدد أفضل عدد للمرؤوسين، ولكن هناك عدة عوامل توثر في هذا الرقم، منها:

  • التوزيع الجغرافي للمؤسسة
  • عدد موظفي المؤسسة
  • طبيعة الأعمال والنشاطات التي تمارسها المؤسسة
  • كفاءة المدير
  • كفاءة المرؤوسين
  • تنوع مهام المرؤوسين (كلما اختلفت المهام أصبح التعدد أصعب)
  • كمية المهام الإدارية الموكلة للرئيس (وجود سكرتير مثلا يقلل هذا العبء ويسمح بعدد أكبر من المرؤوسين)

أمثلة على نطاقات إشراف مختلفة

المؤسسات الصغيرة والمتوسطة تعمل بمصادر محدودة، ماليا ومكانياً، وبالتالي فإنها تفضل الهياكل التنظيمية المستوية لأنها تضمن لصاحب المؤسسة إشراف تام على جميع العمليات، خاصة أن المؤسسة في مرحلة الإنشاء وهي مرحلة حرجة، كما أن الهيكل المستوي يقلل من المناصب القيادية التي تستلزم مخصصات مالية أعلى، ويرفع من معنويات الموظفين كوهم يتمتعون بحرية صنع القرار في نطاق عملهم المحدد.

أما المؤسسات التي بها مجموعة كبيرة من الموظفين الذين يقومون بأعمال مشابهة (مركز اتصالات على سبيل المثال) فيمكن وضع جميع موظفي خدمة العملاء تحت إشراف شخص واحد أو اثنين (حسب فريق المناوبة مثلا).

في المؤسسات العسكرية تزيد شعبية الهياكل التنظيمية العمودية كونها تحافظ على معايير التسلسل القيادي وتسهل على الرؤساء التركيز مواضيع الضبط والربط وتطوير كفاءات مرؤوسيهم. كما أن التسلسل العمودي يتوافق مع تدرج الرتب العسكرية الذي يعطي الدرجات العليا سلطة تلقائية على الرتب الأدنى، ويعطي مجالاً أوسع للترقية، فمع ترقي عقيد مثلاً لرتبة عميد، يسمح للمقدم بالترقي لعقيد، ثم يحصل الرائد على الترقية، ثم الملازم.. وهكذا دواليك.

خطط التعاقب والإحلال

لضمان جاهزية المرؤوسين لمهام فنية أو إشرافية أعلى، يتم وضع خطط للتعاقب والإحلال (Succession Planning) حيث لا تقتصر خطة تطوير الموظف على تنمية الكفاءات المطلوبة لعمله الحالي وإنما الكفاءات التي سيحتاج لها لو تم ترشيحه لأي منصب أعلى. وكثير من المؤسسات تغفل عن هذا، وعند ترك أي مسؤول لمنصبه الحالي (سواء بالاستقالة أو الترقية..إلخ) عادةً ما تلجأ المؤسسات لاستقطاب خبرات من الخارج بسبب عدم جاهزية المرشحين من المرؤوسين، وبدلا من خطط التعاقب، يكون هناك خطط استبدال Replacement Planning وهذه غالباً ما تكون بشكل مؤقت لأن افتراض ديمومتها يكون عرضة للخطر بسب عدم جاهزية المرشح لذلك المنصب.

الإحلال الذكي

من مزايا الهياكل التنظيمية المستوية – في القطاع الخاص تحديدا – احتوائها على وظائف بدرجات مالية متفاوتة ولكن على مستوى واحد في الهيكل. فمثلا تجد الفني والمهندس على نفس المستوى يتبعان رئيس القسم، ومع الخبرة الفنية للمهندس، يتم تطوير مهاراته القيادية لإعداده للمناصب العليا، بينما يتم تطوير المهارات الفنية للفني ليصبح مهندساً. وهذه المرونة تسمح بتطوير مهارات متفاوتة على مستوى واحد في الهيكل التنظيمي وبدون الإخلال بالتسلسل القيادي في المؤسسة.

كما أن هذه المرونة والشفافية تسمح لأعضاء الرفيق اكتساب مهارات مختلفة خارج نطاق خبراتهم، فالمبرمج مثلا يكتسب مهارات تسويقية، بينما الإعلامي ينمي مهاراته الاستراتيجية مما يسمح للموظفين بالانتقال “أفقيا” في الهيكل التنظيمي وإعطائهم صورة أشمل عن المؤسسة، والذي بدوره يؤهلهم للانتقال “العمودي” لاحقا.

على كل مؤسسة النظر لعملياتها والكفاءات التي لديها ووضع الهيكل التنظيمي المناسب لها مما يضمن للرؤساء الإشراف المناسب على المرؤوسين ولكن بدون تدخل في التفاصيل الدقيقة لمهامهم، وفي نفس الوقت يعطي للمرؤوسين مجالاً لاكتساب الخبرات الفنية والقيادية المناسبة. كما على المؤسسة تعيين مرشحين للمناصب العليا (Successors) ووضع الخطط المناسبة لتطويرهم مما يضمن استدامة المؤسسة لأي تغييرات تستدعي أي تغيير في المناصب أو الهياكل التنظيمية بشكل عام.

بواسطة Badr Al Jahwari