ضربة عنتر: براغماتيا نبل الغاية رغم قساوة الوسيلة

 
مبتدأ..
الرأي العام في عُمان – إن كان هناك فعلاً ما يمكن تسميته رأيًا عامًا هنا – مادةٌ طيارة، تتفاعل مع كل صغيرةٍ وكبيرة تطرأ في المشهد. ورغم الأحداث الكبيرة والصغيرة التي كانت حديث الرأي العام في وسائل التواصل الاجتماعي في الفترة الأخيرة، إلا أن مقالًا قصيراً اليوم أحدث ضجة وجلبة قسمت هذا الرأي إلى مؤيدٍ ومعارض، متشفٍّ وحزين. المترجم والباحث أحمد المعيني كتب مقالًا بعنوان “الاستبلاه.. أو الاستهبال” يوبخ فيه الكاتب الشاب مبارك الحمداني على ما جناه من سرقةٍ أدبية في مقاله “بين الأدب والبلاهة”، ورغم أن المعيني كان محقاً في كل نقطة من مقاله إلا أن كثيرًا من متابعي كتابات الحمداني رأوا المقال قاسيًا جداً خاصةً أنه أتى من باحثٍ وقارئ نهم موجهاً إلى طالبٍ جامعي رغم زخم إنتاجه الفكري.
ما سأطرحه هنا وجهة نظر تحاول التزام الحيادية في الطرح ولكن مع الاعتماد على العلاقة الشخصية مع الطرفين خاصة أنني أعتبر الأول أستاذي في الترجمة، والثاني طالبًا في الكلية التي أعمل بها وتربطني به علاقة صداقة إلكترونية إن شئت تسميتها. وبادئ ذي بدء يجب الإشارة إلى أن المعيني لا يعرف الكاتب ولم يقرأ له – على حسب قوله – سوى هذا المقال، وكل ما بناه من انتقاد هو لهذا المقال فقط غير أن كل النقاط التي أشار إليها يمكن إسقاطها على مقالات أخرى.
أنا والحمداني..
لم يكن أول لقاءٌ لي بمبارك الحمداني يبشر بخير، إذ كانت البداية مع منشورٍ له انتقد فيه كتاب “الربيع العربي” للكاتب سعيد الهاشمي قال فيه: “لا يشرفني قراءة هذا الكتاب. سأحرقه.” سألت: من يكون مبارك هذا؟ فقيل لي أنه طالب جامعي، فلكأني أصبحت عمرو بن كلثوم الذي قال “ألا لا يجهلن أحدٌ علينا فنجهلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا” فغضبت من طفلٍ يتجرأ على انتقاد كاتب له وزنه مثل سعيد الهاشمي، فوضعت تغريدةً مفادها ” يتعملق الطفل ويلبس حذاءً أكبر من مقاسه”. ولا ريب أن كثيرًا ممن هم في دائرتي كان لهم الشعور ذاته، فأصبح لمبارك أعداء، كثيرٌ منهم من نخبة المشهد الثقافي العُماني. بيد أني بمرور الوقت اقتربت من كتابات مبارك وتغيرت نظرتي له. عرفت أنه قارئ نهم قبل أن يكون كاتباً، وقد وظّف قراءاته الفكرية لتتواءم وتخصصه الجامعي “علم الاجتماع”  مما صقل قلمه وفكره، فجاءت مقالاته الغزيرة رصينة وإن توشحت بلغة فيها نوعٌ من التحذلق والاستعلاء.
اقتربت أكثر من الحمداني في مسابقة مناظرات الجامعة حيث كنت عضوًا في لجنة التحكيم وكان هو نجم فريق كلية الآداب الذي وصل للنهائي بفضل الدعم الفكري النظري الذي أضافه الحمداني لحجج فريقه وقدرته على تفنيد حجج الخصم تفنيدًا ينم عن فطنة وذكاء. ولا ننسى أن مدونته حصدت المركز الثاني مناصفة مع صحيفة البلد في جائزة الرؤية لمبادرات الشباب في مجال الصحافة والإعلام.
المقال الحدث..
لنأتِ الآن إلى المقال الذي أحدث هذه الجلبة، والذي رأى فيه الكثير أن المعيني بالغ في تقريع الحمداني على “سرقته الأدبية” إذ أن مقال الحمداني هو خليطٌ من ثلاث مقالاتٍ لكل من ياسر حارب وأحمد حسين عسيري وعبدالله محمد الناصر. يجب الإشارة هنا إلى أن المعيني باحثٌ حاصلٌ على درجة الماجستير وفي المراحل الأخيرة من نيل درجة الدكتوراة، مما جعل منه قارئاً ناقداً ينظر بعين متشككة متصيدة للأخطاء، وهي صفةٌ لا ينكرها بل يجدها مفيدة للمدرس الجامعي. يجب الإشارة من جديد إلى أن التصيد هنا ليس للشخص وإنما للنص، خاصةً عندما يكون مستوى الخطاب أعلى مما يتوقع من الكاتب، عندها تبدأ عملية الفحص الدقيق لجمل أو فقرات قد تبدو مقتبسة، وهذا بالضبط ما فعله المعيني واكتشف وجود تشابه – أو لنقل تطابق – بين كثير من الجمل وجمل أخرى نشرت في المقالات الثلاثة التي أشرنا لها سابقًا. ثم يختم المعيني مقاله باتهامٍ مبطن لجامعة السلطان قابوس – على اعتبار أن الطالب تعلم أسس البحث في الجامعة – فيقول “قد يكون هذا الشاب يعتقد أنّ هذه هي الطريقة في إجراء البحث”، ورغم ما قد يبدو في هذا الاستنتاج من سذاجة إلا أن المطّلع على المشهد الجامعي سيجده منطقيًا للغاية، فكثير من الطلبة يعتقد أن إعادة صياغة الاقتباس يعفي من الإشارة لمصدره، وهذا ما شهدته كوني أكاديميًا في جامعة السلطان. ثم أن هناك علاقة صداقة بين الحمداني وياسر حارب، فلا يعقل أن “يسرق” أحدهما للآخر وهو على علم أن المسروق سيقرأ المقال لا محالة. ما الذي دفع بمبارك لفعل هذا إذا؟ هذا لغزٌ لا يجيبه عليه إلا بنفسه.
ضربة عنتر..
يقال أن عنتر بن شداد كان إذا دخل المعركة بحث عن أضعف جندي في العدو، فيرفع عليه سيفه ولا ينزله إلا وقد قسم المسكين نصفين، فيثير هذا المشهد بما يحمل من بشاعة الذعر في أشجع فرسان العدو فيسهل دحرهم. هذه هي ضربة عنتر التي وجهها المعيني بكل ما فيها من ميكيافيلية ترى أمامها غايةً نبيلة فلا تلقي بالاً لبشاعة الوسيلة أو قساوتها. الفرق هنا أن المعيني لم يبحث عن مبارك كونه أضعف الجند، وإنما كان حظ مبارك أنه وجد نفسه صدفةً أمام المعيني فكانت ضربة عنتر من نصيبه. ورغم أن المعيني لم يتعمد فرد عضلاته –  كما ذهب البعض – على شابٍ في بداية تكوينه لهويته الثقافية، إلا أن الأسلوب كان قاسيًا يحمل نبرة تهكم وسخرية أضعفت بعض الشيء من موضوعية المقال. فمقالات كشف السرقة الأدبية تكون موضوعية بطبيعتها لا تحمل سخريةً أو تشفٍّ، فكيف لو كان المخطئ في حكم التلميذ بالنسبة لمنتقده؟ ألا يفترض أن يكون هناك نوعًا من الوقار الأبوي مع توبيخ بسيط؟
براغماتية..
قد يرى البعض أن ضربة عنتر ضرورية هنا ليكون الكاتب عبرةً لغيره، غير أني أرى في هذا المنهج نوعٌ من البراغماتية التي لا تنظر للأثر النفسي الذي يمكن أن يحدثه مثل هذا المقال مع كاتب في مستهل مشواره. وهذا يقودنا لعدة أسئلة: لماذا قرر المعيني أن يكتب تدوينة عن هذا المقال بالتحديد؟ لماذا طرأت على باله فكرة السرقة الأدبية ولم تطرأ على أي مقالٍ آخر؟ هل لأن الكاتب شاب نستغرب منه فكرًا بهذا الحجم؟ هل النخبة معصومون من السرقة؟ ألم يتهم أحد أشهر الشعراء في السلطنة ذات مرة بالسرقة فغضب واتهم منتقده بأنه “مرتزقة” يعمل في السلطنة؟ ما بالنا اليوم أغمضنا أعيننا عن كل ما يكتب وجعلنا من مبارك كبش فداء نظن أننا نخوف به بقية حملة الأقلام؟
تحت المجهر..
أسئلتي أعلاه جاء جوابها بعد سويعاتٍ من مقال المعيني، فبعد أن كان هؤلاء البراغماتيون يريدون أن يجعلوا من مبارك عبرةً لغيره من “لصوص النصوص” إذ بهم يضعوه تحت المجهر، فيصبح المشهد لا بحثاً عن السرقات لدى بقية اللصوص، ولكن بحثاً عن سرقاتٍ في بقية نصوص مبارك، ولعمري أن مدونة مبارك اليوم ستسجل أكبر زياراتٍ لها منذ إنشائها، وسيزداد متابعوه في التويتر بحثاُ عن تغريداتٍ مسروقة فيصبح هو الشيطان الأكبر، وسينتهز البعض ممن ساءتهم تغريدته عن كتاب “الربيع العُماني” الفرصة للانتقام والتشفي والسخرية من أي جملةٍ تشابه في شكلها أو مضمونها أي جملةٍ لأي كاتب، ثم سيعودون لبيوتهم متناسين الهدف الأسمى الذي كتب المعيني من أجله هذا المقال.
منتهى..
في كثيرٍ من الأحيان أجد نفسي متفقاً مع مكيافيلي، فكثير من الأهداف لا يمكن تحقيقها إلا بوسائل قد يراها البعض مثيرة للجدل، ولذا أتفق مع المعيني في أن فضح السارق ضروري، غير أني تمنيت لو أن هذا السارق كان متحققاً مخضرماً فتصبح سقطته أقوى، بدلاً من أن يكون شاباً يحمل فكراً جميلاً غلب عليه الحماس وسرعة الوصول للشهرة فاقتبس كثيراُ بدون أن يشير لاقتباساته. أراد المعيني أن يجعل منه عبرة، ولكن – من دون قصد – جعله كبش فداء.
بواسطة Badr Al Jahwari

اللاحساسية اللغوية

 10070601943444f8caf5tr1
كنت في زيارةٍ قبل بضعة أيام لإحدى المؤسسات، وفي قاعة الانتظار قعدت أتأمل مختلف اللوحات والمنشورات المعلقة والتي تتحدث عن المؤسسة وأنشطتها وفعالياتها وإنجازاتها، وإذا بي أنصدم من الكم الهائل  من الأخطاء اللغوية التي تحويها كل هذه المنشورات، ولا أستثني منها واحدًا ففي كل منشورٍ أو لوحة خطأٌ أو اثنان على أقل تقدير. حسنًا.. لنفترض أن هذه مجرد مؤسسة لا تضع للغة العربية وزنًا، وليس الهدف من تلك المنشورات سوى إعطاء المراجعين شيئًا يمضون به أوقاتهم ريثما يأتيهم الدور. إذًا ماذا عن الأخطاء المطبعية واللغوية في إصداراتنا الأدبية والفكرية؟ وما سبب الازدياد المطّرد لهذه الأخطاء في الفترة الأخيرة؟ قرأت كتاب “الاستبداد” للشيخ أحمد الخليلي – والذي نعده جميعًا علمًا من أعلام اللغة والمنطق والفكر – فوجدت ستة أخطاءٍ على الأقل في أول 50 صفحة! هذا بخلاف اختفاء التشكيل تمامًا من كتابٍ دينيٍ تاريخي يفترض أن يكون معيارًا لبقية الإصدارات.
هل ستنصدمون لو قلتُ أني أصبحت أنتقل كل جمعة من مسجدٍ لآخر بحثًا عن خطيبٍ يجيد اللغة العربية؟ أحاول أن أنصت للخطبة متحملاً كل الهفوات الإعرابية، فإذا بالفاعل منصوباً وإذا بالمفعول مرفوعاً وهلمّ جرّا. ألم تكن مدارس القرآن هي نواة تعلم اللغة؟ ألم نتعلم أنّ رفع لفظ الجلالة في الآية “إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ” يعدُّ كفرًا؟ سيأتي أحدٌ ليقول أنني أعاني من “متلازمة التحذلق اللغوي” التي وضعها عالمٌ أمريكي يدعي أن كثرة تصحيح الأخطاء اللغوية هو نوعٌ من الاضطراب النفسي، وهي محاولةٌ فاشلة لإخفاء أزمة أكبر وهي أننا شيئاً فشيئاً بدأنا نفقد “حساسيتنا اللغوية”، فما عدنا نلحظ أي شذوذٍ عن القواعد الإملائية أو اللغوية، ولو ظهر فينا من ما زال محافظاً على لياقته وحساسيته اللغوية اتّهِم بالتحذلق.
لماذا وصلنا لهذه المرحلة؟ لأننا ببساطة تركنا القراءة لأمهات الكتب، فنجد أحدهم قد قرأ كل ما ترجم عن كافكا ونيتشه وديستوفوسكي، ولكنه لم يقرأ رسالة الغفران أو مقدمة ابن خلدون أو كتاب الأغاني أو كتاب الحيوان أو حتى كليلة ودمنة وغيرها مما كتب في عهد الازدهار الثقافي العربي والإسلامي، ذلك العهد الذي حدا بأبي الأسود الدؤلي إلى أن يضع علاماتٍ للتشكيل بعد أن رأى كثرة اللحن في الحديث فقال: “إني لأجد للحن غمزًا كغمزِ اللحم”. وقد كان محقاً في وصفه بالغمز، فذو الحساسية اللغوية يشعر بسهمٍ يخترق صدره كلما سمع لحنًا من جهةٍ يفترض منها الكمال اللغوي لاسيما وسائل الإعلام الرسمية المذاعة والمتلفزة.
سيأتي أحدُ ليقول: ولكن في مقالك السابق عن الرسائل النصية (http://bit.ly/OfMeHA) قلت أنها ليست أخطاء وإنما نمطٌ خطابي جديد! نعم قلت ذلك، وركزت في أن تلك الرسائل هي أولاٌ حديثٌ عفويٌ مكتوب في حقيقته وثانيًا ليست صادرة من جهة رسمية، فلا يمكن مقارنتها بكمّ الأخطاء التي يرتكبها مقدمو الإذاعة وخطباء المساجد!
ملاحظة: إن وجدتم أي خطأٍ إملائيٍ أو لغوي في ما جاء أعلاه فلا تبخلوا علي بالنصح. رحم الله امرأً أهدى إليّ عيوبي.
بواسطة Badr Al Jahwari