الرسائل النصية: اغتصابٌ كتابي أم إبداعٌ خطابي؟

text-message-cartoon

قد يغضب بعض المتحذلقين لغويًا مثلي من كمية “الاغتصاب اللغوي” الذي يُمارس في الرسائل النصية وأشهرها في الوقت الراهن محادثات الوتساب حيث تنهار كل الأعراف النحوية والإملائية، بيد أن هناك من ينظر للنصف الممتلئ من هذه الكأس وهو أن أبناءنا أصبحوا فعلا يمارسون الكتابة والقراءة، نعم قد تكون كتابة سيئة وقراءة أسوأ إلا أنها أفضل من لا شيء .
بادئ ذي بدء يجب هنا أن نوضح نقطة مهمة جدًا وهي أن الرسائل النصية ليست نمطاً كتابيًا على الإطلاق، وإنما هي تطورٌ بصري للخطاب، أي أننا عندما نكتب رسالة فنحن “نتحدث” كتابياً، ولو أخذنا أي نصٍّ صوتي وقمنا بتفريغه كتابيًا ثم أجرينا تحليلا خطابياً لهذا النص لوجدنا تشابها كبيرًا بينه وبين ما نراه في رسائلنا النصية. فاللغة منطوقة في المقام الأول، ولم تظهر الكتابة إلا بعد تطور اللغة بمراحل، وأتت بمزايا تأملية تختلف عن أساليب المحادثة لتضفي صفة الرسمية، وما الخطب السياسية في حقيقتها إلا كتابةٌ بصورة منطوقة فلا أحد يتحدث فعلاً كما يتحدث السياسيون في خطبهم، وعليه فإن الرسائل النصية هي نطقٌ بصورة كتابية لا أكثر.
هذه النقطة بالتحديد هي التي لا يريد كثيرٌ من اللغويين تقبلها، والذين يصرون على الالتزام بأدق القواعد اللغوية في أي رسالة. بل ويعتقدون أن اللغة لم تتدهور إلا بسبب التقدم التكنولوجي ظنًا أن الأجيال – المتعلمة – السابقة كانت تتقن الكتابة إتقاناً، إلا أن من ينظر في الدراسات التاريخية لوجد هذا التذمر من تدهور لغة الجيل الجديد حاضراً في كل العصور، فنجد رئيس جامعة هارفارد في القرن التاسع عشر مثلاً يشتكي من الأخطاء اللغوية لطلابه، بل لو عدنا للقرن الأول الميلادي لوجدنا أساتذة اللغة اللاتينية يتذمرون من النمط الكتابي والخطابي الجديد الذي يسلكه طلبتهم، والذي تطور لاحقاً ليكون باكورة اللغة الفرنسية كما نعرفها اليوم .
وعليه فلا غرابة في أن ما نراه اليوم يمارس في الرسائل النصية ليس أخطاء بقدر ما هو نمط كتابي جديد ما هو إلا مرحلةٌ جديدة من مراحل تطور اللغة في تاريخها الطويل، والدليل أنك لو طلبت من هذا الشخص الذي يكتب بهذه الطريقة أن يكتب رسالةً رسمية لوجدت تغيرًا في مستوى الخطاب – وإن شابه بعض الهفوات النحوية والإملائية – فهو قادرٌ على التمييز بين هذا وذاك.
إننا بحاجة لدراسةٍ موضوعية غير متعصبة للغة الكلاسيكية تحلل الرسائل النصية خطابياً باعتبارها لغةً منطوقة في هيئةٍ كتابية وفي نفس الوقت باعتبارها نمطًا كتابيًا قد يتطور إلى لغاتٍ جديدة كما حدث مع اللاتينية التي انبثقت منها الفرنسية والإسبانية والإيطالية. إن ما نراه تخبطًا هو في الحقيقة إبداعٌ خطابي، ولو نظرنا له هكذا لتغيرت الكثير من المفاهيم ليس على الصعيد الخطابي فحسب وإنما على صعيد التواصل بشتى أنواعه.
بواسطة Badr Al Jahwari

انفصال: واقعية لا تصدق

separation 1
قرأت منذ فترةٍ قصة من الأدب الياباني، محورها أن لاعب خفة في سيرك قتل زوجته خطأً في إحدى الاستعراضات، فبدلاً من أن يصيب بسكينه التفاحة التي على رأسها، إذ به يصوبها إلى جبهتها فيرديها قتيلة. ثم تشير التحقيقات إلى أن الزوج كان يشك بخيانة زوجته له، فتوجه له تهم القتل المتعمد. المشكلة، وحبكة القصة، هي الصراع الداخلي للقاتل إذ أنه بنفسه لا يعي هل قتل زوجته متعمداً أم خطأً.
استحضرت هذه القصة وأنا أتابع الفيلم الإيراني “انفصال” الفائز بجائزة الأوسكار لعام 2011 لأفضل فيلم أجنبي، والذي كتبه وأخرجه المخرج الإيراني المبدع أصغر فرهادي. تحكي قصة الفيلم عائلة تواجه خطر الطلاق رغبة من الزوجة مغادرة طهران بحثاً عن مستقبل أفضل لابنتها، بينما يرفض الزوج لتعلقه بوالده المصاب بالزهايمر، فتقرر الزوجة مغادرة المنزل ويضطر هو لاستئجار خادمة ترعى والده في غيابه، ثم تتطور الأحداث بشجار بين الزوج والخادمة – الحامل – مما يؤدي إلى إجهاضها.
رغم دراماتيكية الأحداث وتطورها بنسق سريع إلا أن أكثر ما يثير المشاهد هو التناقض والصراع الداخلي الذي تعيشه كل شخصية، فالزوج يقر بخطئه إلا أنه يرفض الاعتراف في قرارة نفسه أنه هو من سبب الإجهاض، في الوقت الذي تمر فيه الخادمة بظروف صحية سيئة فلا تدري في قرارة نفسها ما إن كان الشجار سبب الإجهاض أم شيء آخر. وفي الجهة المقابلة تعيش الابنة المراهقة صراعها الخاص بين البقاء مع والدها أو الانتقال للعيش مع أمها وهي التي تحاول عبثاً لم شمل العائلة.
separation 2
ينجح أصغر فرهادي في نقل تفاصيل الطبقة العاملة في إيران والمعاناة التي يمر بها كل أفراد هذه الطبقة، فالخادمة – المتدينة جدا – توافق على العمل في بيت غريب على شرط أن لا تتعدى مهامها تنظيف البيت وتجهيز الطعام للعجوز الخرف، إلا أنها ترغم على “تنظيف” العجوز العاجز فتتصل بمكتب الإفتاء طلباُ لفتوى تسمح لها بلمسه. ثم ترفض دية جنينها المجهض خوفاً على إطعام ابنتها مال حرام بسبب شكوكها حول سبب الوفاة. من جهة أخرى يبذل الزوج طاقته ليكون ابناً باراً لوالده الخرف، وفي نفس الوقت والداً صالحا لابنته المراهقة التي يحاول جاهداً تعليمها معنى العصامية وفرض الوجود، فيمنعها من دفع “بقشيش” للعامل في محطة البنزين ويمنعها من استخدام الاسم العربي لكلمة “ضمان” دافعاً بالمصطلح الفارسي.
تلعب دور الزوجة الممثلة الإيرانية ليلى حاتمي التي لعبت أيضا دور البطولة في فيلم About Elly وهو أيضا من تأليف وإخراج أصغر فرهادي، وتنجح ليلى في تجسيد المرأة الإيرانية القوية التي تبحث عن مستقبلٍ أفضل ولكنها تصطدم بواقعٍ يأبى إلا أن تحقق نجاحها على حساب فقدان أحبابها.
الفيلم يصدم المشاهد بواقعيته، بأحداثه، باضطرابات شخوصه، وبالحميمية القاسية التي تظهر فيها علاقاتهم ببعضهم. الزوجة تقول لزوجها – مشيرة لوالده الخرف – “بالكاد يعرف أنك ابنه!” فيجيبها “ولكني أعرف أنه والدي”. الابنة ذات الأحد عشر ربيعا تقرر البقاء مع والدها، ليس لأنه تحبه أكثر من أمها ولكن لعلمها أنه أضعف من أن يترك لوحده. زوج الخادمة – المنكوب بوفاة ابنه المنتظر – يقاسي كل مآسي الحياة بعد طرده من عمله وملاحقة الدائنين له. ولكن أكثر النقاط واقعية هل أن كل الشخصيات – مع كامل صراعاتها – طيبة في قرارة ذاتها، ولا تريد إلا الخير لها ولعائلتها، إلا أن اختلاف وجهات النظر والمكابرة لإثبات الرأي يصعد الخلاف إلى ذروته.
separation 3
على المستوى الفني، يمتنع المخرج عن استخدام أي مؤثراتٍ صوتية على الإطلاق، فلا يستخدم الموسيقى السينمائية حتى في أكثر المشاهد اضطراباً، لكأنه يريد للمشاهد أن يكون جزءاً من الفيلم يعيش أحداثه وشخوصه، فإن صمتوا صمت معهم، لا يسمع سوى دقات قلبه المتسارعة مع صمتهم.
“انفصال” فيلم من عالم ليس بغريب علينا، إلا أن واقعيته المفرطة تجعلنا نرفض تصديقه، ينجح فيه أصغر فرهادي في جعل المشاهد جزءا من الفيلم، فمنذ أول مشهد في الفيلم، حين يتحدث الزوجان مع القاضي والزوجة تطلب الطلاق، لا نرى صورة القاضي، بل يصبح المشاهد هو القاضي وكأنه في أول مرافعة لقضية ستستمر عدة جلسات.. ثم في آخر مشهد من الفيلم، يطلب القاضي من الطفلة أن تحدد مع من من والديها ستبقى, فتطيل في التفكير، وتتسارع دقات قلب المشاهد، ثم تطلب الطفلة من والديها مغادرة القاعة لكي تخبر القاضي سراً، فنجد أنفسنا نخرج معهما خارج القاعة، فهي لا تقصي والديها من قرارها فحسب، بل تقصينا جميعا.. فننتظر.. وننتظر.. وننتظر…. ثم ينتهي الفيلم.
separation 4
بواسطة Badr Al Jahwari مصنف